ثم إن الخلق لما تكبروا على الخالق سبحانه وتعالى، لم يكتفوا بمعصيته ومخالفة أمره، بل زادوا على ذلك مخاصمته عز وجل ومجادلته فيما أمر، وهذا من أعظم ما يقابل به العبد الضعيف ربه العزيز الجبار المتكبر سبحانه وتعالى.. فالمخاصم لربه يجادله، ولسان حاله يقول: أنا المصيب وأنت المخطئ -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وهكذا كان حال إبليس حينما قال الله عز وجل له: ((مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12] إذ أمرك لي بالسجود مخالف للحكمة، فكان ينبغي أن تأمره أن يسجد لي؛ لأنني خير منه. فهذه خصومة لله رب العالمين سبحانه وتعالى، وهكذا كل من تجرأ على الله واستكبر عليه فإنه مخاصم لربه عز وجل.
ومن ذلك ما كان من قبل وما نراه ونسمعه إلى اليوم، من مخاصمة البشر لله تعالى في باب القدر، يقول القائل: إن الله تعالى هو الذي كتب عليَّ المعصية، فلم يعاقبني؟! هذا في باب الأمر والنهي.
أما في باب الأقدار الكونية فنسمع العجب العجاب من الناس في مخاصمة الله سبحانه وتعالى، ونلاحظ كثيراً من الخلق يشكون الخالق الذي منّ عليهم بالنعم وأسبغها عليهم ظاهرة وباطنة، إلى مخلوق ضعيف عاجز مثلهم، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فيقول: لماذا ابتلاني الله؟ وما هو السبب؟ وماذا صنعت حتى يبتليني؟ وانظر بماذا ابتليت!! وهذا من تزيين الشيطان لإغواء هذا الإنسان، ليخاصم ربه، كما خاصم هو في أول أمره.
ومن ذلك أنهم يقولون: لو أن الله تعالى لا يريد منا هذه المعاصي لما كتبها علينا ولما شاءها، فيحتجون بنفس الحجة التي احتج بها المشركون من قبل على رضا الله سبحانه وتعالى بما لا يرضاه، قالوا: لأن الله قد قدر ذلك.
وهكذا خوصم النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح مسلم - {أن المشركين جاءوا إليه يجادلونه في القدر، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ))[القمر:49] } فبين الله تعالى أن هذا الجدل وهذه الخصومة باطلة، وأن العباد ما عليهم إلا أن يستسلموا وينقادوا لربهم سبحانه وتعالى، وأن يطيعوا أمره، ولا يعارضوا شرعه: أمره ونهيه بقدره وقضائه، فإن هذا منه وهذا منه سبحانه وتعالى ولكنهم يجهلون.
وليعلم أنه لا يعترض ولا يخاصم الله سبحانه وتعالى إلا من جهل قدر الله، ولم يعرف ربه حق معرفته، ولم يقدره حق قدره سبحانه وتعالى، وإلا فكلنا بين يديه، ونحن خلقه وعبيده، أوجدنا بعد أن لم نكن شيئاً مذكوراً، وأسبغ علينا النعم، وأعطانا من العلم والفهم، والأعضاء والجوارح ما لا نستطيع القيام بشكره، وطلب منا أن نعبده، وجزاؤنا على ذلك جنة عرضها السموات والأرض، والله سبحانه وتعالى غني عن عبادتنا، لا تضره معصيتنا، ولا تنفعه طاعتنا، ولكن الشيطان يزين لأوليائه وأتباعه أن يجادلوا رب العالمين كما جادله هو من قبل.